المساهمات : 85 نقاط : 215 تاريخ التسجيل : 04/09/2020 العمر : 27 الموقع : مشرفة
موضوع: رواية في السراء والضراء للكاتبة مريم العبد الله الأربعاء ديسمبر 07, 2022 11:27 pm
في السراء والضراء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بسم الله الرحمن الرحيم،
وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الخلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
مقدمة:
القصة التي سأحكها اليوم هي قصة حياة لمجموعة من الأشخاص جمعتهم الأقدار مع بعضهم البعض، فارتبطوا فيما بينهم برابط فريد من نوعه. أناس يعرفون معنى الحب والكره، الغضب، الفرح، الحزن، الأمل والألم وكثير من المشاعر التي تموج بهم وهم داخل سفينة الحياة. جمعهم الغنى والفقر، وفي بعض الأحيان جمعتهم روابط الدم، الصداقة، والزواج، والأكثر من ذلك هي الأقدار الإلهية، التي جمعتهم كعائلة واحدة لن يفرق بينها سوى الموت. هي قصة تحمل مختلف الجوانب: الدينية، الاجتماعية، الأسرية، وغيرها... ما أريد أن أنوه به بأن القصة من وحي الخيال، لا علاقة للأحداث أو الأشخاص أو الوقائع الموجودة فيها بالواقع الحي... لا يوجد أي إطار زمني أو مكاني للقصة لقد تركتها مفتوحة حتى يتسنى لجميع القراء والتمتع دون مقارنة أو حاجز... لا يوجد هناك أبطال رئيسيين أو ثانويين، لكن يوجد هناك شخصيات تحمل طريقة تفكير خاصة ومميزة تجعلها تبرز نفسها عن المحيطين بها. باختصار هي رواية تحكي عن العائلة، عن القيم والمبادئ التي بدأت بالاندثار في مجتمعنا الحالي. هي قصة ماض وحاضر ومستقبل.
قراءة ممتعة...
الشخصيات:
عائلة المالكي:
توفي حامد المالكي وأخيه سالم وزوجتيهما، صالحة وأنوار، إثر حادث سير تاركين وراءهم ستة أطفال يتامى.
حامد وزوجته صالحة ادريس: الابن البكر، يبلغ من العمر 21 سنة، يدرس في سنته الثانية حقوق. فوجئ بوفاة والديه وعمه وزوجة عمه، وبعدها خسارتهم لكل ما يملكون والحجز على جميع ممتلكاتهم، فقرر التخلي عن دراسته والعمل من أجل إطعام أخوته وبنات عمه، أخ رائع وحنون يمكنه التضحية بكل ما لديه ليكونوا بأمان. منير: الابن الثاني، يبلغ من العمر 18 سنة، كان مع والديه أثناء الحادث، الشيء الذي خلف ضررا في عينيه، إنسان مرهف المشاعر، يعشق الأدب، ويحب القراءة كثيرا، وكان دائما ما يجلب له والده الكتب من سفرياته. محمد: الابن الثالث، يبلغ من العمر 16 سنة، رغم صغر سنه إلا أنه ذو شخصية قوية، يحاول مساعدة أخيه بأن يحرس أخته وابنتي عمه من أن يصيبهن مكروه. سليمة: الابنة الصغرى، تبلغ من العمر 11 سنين، طفلة بريئة لم تعرف يوما الجوع أو الحرمان لتجد نفسها في الشارع بدون أب أو أم، فقط مع أخويها وبنات عمها.
سالم وزوجته أنوار سعدية: الابنة الكبرى، تبلغ من العمر 18 سنة، شابة في مقتبل العمر لكنها فطينة ولديها قدرة على التأقلم مع أي وضع، ومن أجل تخفيف المسؤولية عن ابن عمها قررت التخلي عن دراستها. أصبحت فجأة مسؤولة عن الاهتمام بأمور أختها وابنة عمها وكذا القيام بالأشغال المنزلية، سيئة الحظ تزوجت بابن خالتها ليضيقها العذاب. انشراح: الابنة الصغرى، تبلغ من العمر 14 سنين، لا تعرف سوى أنها لن ترى والديها مرة أخرى، تحاول مساعدة أختها بشتى الطرق.
عائلة الروحي:
ياسر الروحي: يبلغ من العمر 82 سنة، أب صالحة زوجة حامد المالكي، رجل عجوز كفيف، فقد بصره منذ سنوات عدة، يعيش مع حفيدته من ابنه الوحيد المتوفى منذ 17 سنين. رقية: تبلغ من العمر 20 سنة، شابة في مقتبل العمر فقدت والديها وهي في الثالثة من عمرها، رباها جدها وكأنه ابنته لديها عمة واحدة وهي صالحة أم ادريس، لطالما أحبت مهنة التدريس وقد حققت حلمها بأن أصبحت معلمة.
عائلة التهامي:
الأب إلياس: العمر 46 سنة، رجل ذو هيبة وهو صديق وفي للحاج حامد، يسير تجارة العائلة الخاصة في الأثواب والنسيج. أب وزوج محب، ورجل شهم. الأم نضال: العمر 42 سنة، امرأة ذات جمال ولباقة عاليين، كانت السند والعون لزوجها دائما، أنجبت له ولدا وبنتا ولكن للأسف جراء خطأ طبي فقدت قدرتها على الإنجاب مجددا. منذر: الابن الأكبر، العمر 19 سنة، أصبح صديقا مقربا من ادريس، يدرس في سنته الأولى تجارة. انسان بشوش ومرح. راضية: الابنة الصغرى، العمر 17 سنة، مراهقة لكنها ناضجة التفكير ورزينة في طبعها، تحمل من الجمال والرقة والأخلاق الكثير.
عائلة الراضي:
الجد حاتم: يبلغ من العمر 70 سنة، انسان حليم الطبع ترك إدارة الأعمال في شركات الخشب التي أسسها بتعبه ومجهوده لابنه الوحيد. وقرر الذهاب هو وزوجته إلى العيش في المنزل الريفي. الجدة ميمونة: تبلع من العمر 61 سنة، تشبه زوجها كثيرا في طبعه، ولكنها لم تحب يوما زوجة ابنها، التي دائما ما تدعوها أمام زوجها بالمنافقة. الأب أيمن: الابن الوحيد، العمر 47 سنة، انسان عصبي قليلا لكنه عطوف، أصبح يسير أعمال العائلة بعد تقاعد والده، رغم حبه الكبير لزوجته إلا أنه لم يكن يوما مطيعا لها. الأم تبسم: زوجة أيمن، العمر 45 سنة، انسانة أنانية وجاحدة، لطالما حاولت ابعاد أيمن عن أبويه، لكنه دائما ما أوقفها عند حدها رغم حبه الكبير لها، تكره الكل ولا تراعي مشاعر أحد، هي أخت أنوار الكبرى ولطالما كانت تغار منها، حتى أنها خطبت سعدية لابنها سليم للانتقام منها على زواجها من سالم، لكن الأقدار شاءت غير ذلك. قاسم: الابن الأكبر لأيمن، العمر 25 سنة، انسان رزين يحب الأدب رغم إصرار أمه على دخوله كلية التجارة لكن والده دعمه في اختياره، يشارك في جمعية متخصصة في ترجمة الكتب إلى لغة المكفوفين لمساعدتهم على القراءة وإكمال دراستهم. عواطف: الابنة الثانية، العمر 24 سنة متزوجة من محاسب بشركات جدها، وهو الشيء الذي رفضته أمها لكن كل من جدها وأبيها وافقا عليه. لديها طفل رضيع اسمه يوسف ذو الأربعة أشهر، تعاني كثيرا من إهانة أمها لزوجها، إنسانة ناضجة التفكير ورقيقة المشاعر. فؤاد: زوج عواطف، العمر 26 سنة، انسان أمين كان والده المحاسب قبله إلى أن توفي فأخذ مكانه، يتيم الأم منذ الولادة. لطالما تعرض إلى الإهانة من طرف حماته، لكنه لم يبدي أبدا حزنه أمام زوجته كي لا يحزنها. سليم: الابن الثالث، العمر 22 سنة، انسان حقود ولا يحب الخير لأحد وخصوصا إذا كان هذا الشخص أخاه الأكبر قاسم، يكره زوج أخته لأنه يساند قاسم. إنسان فاشل ومستهتر كما أنه مدمن مخدرات لكن لا أحد من عائلته يدري حتى أمه. جعفر: الابن الرابع، العمر 21 سنة، في سنته الثانية من كلية التجارة، شاب هادئ مبتعد كل البعد عن الصراع داخل عائلته، يحب كثيرا النجارة والنقش على الخشب، حتى أنه منذ صغرة وهو يتدرب عند أحد الحرفيين. أمل: الابنة الصغرى، العمر 17 سنة، صديقة مقربة من ابنة خالتها، سعدية، تأمل في يوم ما أن تتزوج وتبتعد عن أجواء عائلتها التي لطالما كرهتها.
عائلة الحارثي:
العم أمين: الحارس السابق لمنزل عائلة المالكي قبل وفاة الأخان يبلغ من العمر 48 سنة، رجل طيب لم يتخلى أبدا عن الأطفال بعد وفاة والديهم، فأسكنهم منزله. الخالة فاطمة: كانت مدبرة المنزل وهي زوجة أمين امرأة حنون وهي مربية الأطفال، تبلغ من العمر 45 سنة. نزهة: الابنة الكبرة تبلغ من العمر 19 سنة، انسانة رقيقة المشاعر وطيبة القلب وقنوعة، تحب ادريس منذ الصغر لكنها لم تأمل أبدا أن تتزوجها للفرق الذي بينهما. كوثر وكريمة: توأمتان تبلغان من العمر 17، مراهقتان إلا أنهما ناضجتا التفكير. حورية: الابنة الصغرى تبلغ من العمر 16 سنة، جميلة العائلة، طيبة وشاعرية، تحب القراءة كثيرا، وهي التي تقرأ لمنير كتبه المفضلة بعد ما أصيب في الحادثة.
عائلة الراوي:
الحاج حامد: يبلغ من العمر 67 سنة، ليس لديه أبناء، أعجب بشهامة ادريس فشغل معه، ومع مرور الوقت اعتبره كابن له. الحاجة ثريا: تبلغ من العمر 62 سنة، لم يكتب لها الإنجاب لكن الحاج حامد رفض الزواج عليها، ووجود ادريس وعائلته ملآ حياتها.
عائلة عبد العزيز:
العم عثمان: يبلغ من العمر 53 سنة، التقى مع ادريس في موقع البناء الذي هو رئيسه، لديه سر وحيد في حياته، صديق للحاج حامد منذ سنوات وهو الوحيد الذي يعرف سره. الخالة أمينة: تبلغ من العمر 50 سنة، يتيمة الأم منذ الصغر، كان أبوها يعمل مع زوجها عثمان، فرآها يوما ما فأعجب بها فخطبها من والدها، الذي وافق عليه بسبب حسن أخلاقه وأدبه، لديها ثلاث بنات وولد واحد، كل بناتها متزوجات في مدن أخرى لم يبقى معها سوى خالد ابنها. خالد: يبلغ من العمر 16 سنة، رغم صغره سنه إلا أن أمنيته الوحيدة أن يلتحق بالجيش كزوج أخته الكبرى الذي يحترمه ويقدره جدا. تصادق هو ومحمد صداقة متينة جدا.
عدل سابقا من قبل مريم_العبد الله في الأحد ديسمبر 11, 2022 6:56 pm عدل 1 مرات
مريم_العبد الله Admin
المساهمات : 85 نقاط : 215 تاريخ التسجيل : 04/09/2020 العمر : 27 الموقع : مشرفة
موضوع: رد: رواية في السراء والضراء للكاتبة مريم العبد الله الأحد ديسمبر 11, 2022 6:52 pm
الفصل الأول:
ها هو يقف أمام البناء الغير مكتمل حيث سيبدأ العمل من اليوم فصاعدا، لقد خسروا كل شيء بعد وفاة والده. وليس لديه هو وإخوته وبنات عمه مكان يسكنون فيه ثوى منزل العم أمين، ذلك المنزل الصغير الذي أصبح يضم أحد عشر شخصا، إنه منزل صغير ليس به سوى غرفتان وصالة، إحدى الغرف يسكنها العم أمين وزوجته الخالة فاطمة بينما الثانية تجلس فيها الفتيات ويضطر هو وأخويه على النوم في الصالة، لقد أصبح المنزل فوضى عارمة، وأصبحت بنات العم أمين مجبرات على وضع الحجاب حتى داخل منزلهن. لذلك يجب عليه كسب بعض المال لكراء مكان للعيش فيه، سينسى جامعته، فلن يتمكن من سداد أقساطها ولكنه سيحرص على ان يكمل إخوته وابنة عمه الصغرى مدارسهم، هو يعرف جيدا أن استغناء سعدية عن الدراسة ليس كسلا بل لأنها تفهم جيدا وضعهم الحالي ارادت أن تتخلى عن دراستها لتساعده في المصاريف، هو يراها كيف أنها تسهر على الشمع كل ليلة لكيلا توقظ من بالمنزل، من أجل خياطة الملابس التي هي بارعة فيها وهي التي لطالما أرادت أن تصبح مصممة مشهورة، لكن لا تجري الرياح بما تشتهي السفن، فليتوكل على الله وليبدأ عمله الجديد بكل إرادة وعزم. -السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بماذا أساعدك؟ -أنا ادريس، لقد بعثني السيد فاضل الماحي إلى هنا من أجل العمل. -مرحبا بك يا بني أنا عثمان. -شكرا لك يا عم عثمان. -آه أنت البناء الجديد، تعال معي يا بني، ولكن قل لي شيء فقد انتابني الفضول، لماذا شاب مثلك في مقتبل عمره يريد أن يشتغل بناء وكان بإمكانك العمل في شيء آخر ألا حرفة لك؟ -لقد كنت في كلية الحقوق لكن عند وفاة والدي، اضطررنا أنا وإخوتي إلى الخروج من منزلنا وترك مدارسنا لأن مصارفها كثيرة، لذا يجب علي العمل لإعادتهم إلى مدارسهم. -ولماذا البناء كان يمكن أن تختار عملا يناسب دراستك. -لقد حاولت ولكن لا أحد يقبل بي فانا لم أخذ الشهادة بعد. لذلك ذهبت إلى السيد فاضل، فقد كان يعمل عند والدي، من أجل أي عمل كان لأسد به احتياجاتنا وخصوصا أن جميع إخوتي أصغر مني سنا. -أتمنى لك التوفيق يا بني وإن احتجت شيئا لا تخجل مني، اعتبرني أبا لك. -جزاك الله خيرا يا عم عثمان. وذهبا سويا لكي يتعرف ادريس على عمله الجديد في نقل الحجارة من الطابق الأول إلى الطابق الثالث، ولو لا بنيته الجسمية لما تمكن من فعل ذلك، فقد كان ادريس يحب الرياضة كثيرا ويداوم عليها مما جعل له بنية قوية. ثم حتى حان وقت الظهيرة، فذهب العمال إلى المسجد القريب لتأدية صلاة الظهر، وبعد ذلك اجتمعوا لتناول الغذاء مع بعضهم البعض. لم يكن مع ادريس أي أكل فقرر اكمال عمله لعله يذهب مبكرا ومعه بعض الأكل إلى المنزل ليفرح به عائلته. عند آذان العصر كان قد انتهى من عمله، ثم ذهب يسأل هل هناك المزيد من العمل. -عم عثمان هل هناك عمل إضافي يمكنني القيام به أو يمكنني الذهاب الآن؟ -لا ليس هناك عمل يمكنك الذهاب...لقد تذكرت لقد قلت لي أنكم لا تملكون منزلا فأين تسكنون الآن؟ -نسكن مع حارس منزلنا القديم، فهو رجل وفي لم يتركنا أبدا منذ وفاة والدينا، وقد أسكننا بيته. لكن العم أمين لديه بنات في المنزل ونحن ثلاث أخوة ذكور، بسببنا باتت البنات مضطرة على وضع الحجاب في المنزل أيضا. -اذهب واسأل عن الحاج حامد الراوي في حي الألفة، وعند لقاءه قل له أن عثمان السعدي بعثني إليك ثم احكي له قصتك وهو سيساعدك إنه رجل طيب القلب. - أ اسمه حامد؟ يا لها من صدفة، فذلك اسم والدي رحمه الله. حسنا يا عم عثمان جزاك الله خيرا لقد كنت تائها لا أدري أين أذهب أنا وإخوتي. -إلى اللقاء يا بني. -إلى القاء يا عم عثمان. ذهب ادريس فرحا إلى المكان الذي أرشده إليه عم عثمان بعد أن أخذ يوميته التي تبلغ 40 درهم لكنه حمد الله عليها. وهو في طريقه كان يسأل عن شارع الوفاء وعندما وجده بات يسال عن الحاج حامد الراوي، وصل أخيرا إلى المكان فوجده معجا بالناس بين داخل وخارج، الكثير من النساء والرجال، كان المبنى مكونا من أربع طوابق، قديم بعض الشيء وطلائه الأبيض أصبح مائلا للأصفر، كبير بل ضخم من الداخل، به الكثير من الأبواب يعني الكثير من الغرف والكثير من السكان، وفي غرفة تطل على الشارع منفردة بنفسها ليست كباقي الغرف، يجلس بداخلها رجل يكون قد بلغ من العمر الستين سنة فما فوق، تظهر على ملا محه علامات الوقر. -السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا حاج. -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، يا بني بما اساعدك؟ -أنا اسمي ادريس يا حاج، بعثني العم عثمان إليك قصد اكتراء غرفة في منزلك إن كانت متوفرة. -مرحبا يا بني، ومن أين تعرف عثمان؟ -من موقع البناء الذي نشتغل به سويا. -لا زلت شابا كان الأولى بك أن تدرس لا أن تشتغل بناء. - ما باليد حيلة يا حاج منذ وفاة والدي في حادث سير وأنا المعيل الوحيد لأسرتي لذا علي العمل من أجل كسب لقمة العيش لي ولهم. -قل لي يا بني كم أخا وأختا بكم؟ -لدي أخان وأخت وابنتا عم. -ولماذا لم تذهب إلى عمك؟ -لقد مات عمي وزوجته أيضا في نفس الحادث، لقد كان حادث مريرا فقدنا فيها والدينا وحتى أخي الصغير فقد بصره. -لا تحزن يا بني فتلك حال الدنيا وكلنا راحلون عنها، وأنت يا بني ماذا كنت تدرس قبل ذلك؟ -لقد كنت في كلية الحقوق يا حاج. -وهل تجيد الحساب، وما إلى ذلك؟ -بالطبع. -وما رأيك أن تشتغل معي؟ -معك؟ أين؟ -هنا، كما ترى يا بني أنا رجل مسن، ولا قدرة لي على تدقيق الدفاتر وغيرها، ناهيك عن لم الإيجار، فما رأيك أليس أحسن من العمل في البناء؟ قل لي كم أجرك في موقع البناء؟ -40 درهما والحمد لله. -سأعطيك الضعف وتقبض أجرك شهريا كما أن أجرك لهذا الشهر تقبضه مقدما، ماذا قلت؟ -قلت على بركة الله يا حاج، لن أنسى معروفك هذا أبدا. -وأين تسكنون الآن يا بني؟ - بعد طردنا من المنزل والحجز على ممتلكاتنا، أسكننا العم أمين، حارس منزلنا القديم عنده وللحق لم يقصر معنا في شيء ولكن المنزل صغير ليسعنا كلنا، وخصوصا لديه أربع بنات يضطررن إلى المكوث اليوم كله في الغرفة أو لبس الحجاب طوال اليوم حرجا مني أنا وإخوتي الذكور، والأكثر من ذلك فهو يرفض أي مساعدة مني في مصروف المنزل، وكلما حاوت معه يقول إن والدي رحمه الله كان يكرمه كثيرا وأن والدي هو من أهداه المنزل بعدما انهار منزلهم السابق، ولكن لا يمكنني استغلاله فنحن ستة أشخاص إضافيين نأكل ونشرب يوميا، وكذا عمله الجديد مرهق فهو يسهر الليل كله في العمل ولا ينام غلا سويعات قليلة ليخرج ليعمل كبائع متجول دون علم أحد، إلى أن صادفته يوما، لذلك لا يمكنني أن أجلس أنا الشاب الصغير في السن ولي قدرة على العمل، وأترك رجلا مسنا يكد ليل نهار من أجل أن أبقى مرتاحا. -أنت محق يا بني، يجب على الإنسان أن يسعى في لقمة عيشه كي يكون مستحقا لهبة الله تعالى له من الصحة والعافية. ما رأيك الآن أن نذهب لنرى شقق المنزل؟ -حسنا يا حاج. وبعدها ذهب كل من ادريس والحاج حامد لرؤية الشقة الصغيرة، كانت الشقة تتكون من غرفة نوم واحدة وغرفة جلوس ومطبخ صغير وحمام (أكرمكم الله)، كانت الشقة بالطابق الثالث تطل مباشرة إلى داخل المنزل. فرح ادريس بالشقة الصغيرة التي ستجمع عائلته الصغيرة في مكان واحد ينتمي إليهم وما زاد فرحه أن الحاج حامد لم يطلب سوى 130 درهما في الشهر كإيجار لها. كان المؤذن يأن لصلاة المغرب حين وصل أمام مسجد الحي الذي يقطن فيه الآن فدخل يصلي فرضه. وعند خروجه وجد عربة تبيع القليل من الفواكه، فقرر أخذ بعضها ليفرح بها عائلته. وصل أمام العمار ة وباله مشغول، الآن وقد وجد عملا بثمن جيد وسقة صغير للسكن، فيمكنه الآن إعادة تسجيل إخوته وبنت عمه الصغرى في المدرسة القريبة التي سأل عنها الحاج. لقد كان سعيدا، فسبحان الله إذا أحب عبدا يسر له كل شيء، يجب على الإنسان فقط يتحرك، وقد كان ادريس متشبثا جدا بدينه، فهو لم يفوت يوما صلاته وكان دائما ما يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع، لذلك لطالما كان والده فخورا به، حتى عمه كان يحبه كثيرا وكان يتمناه لابنته سعدية، لكن زوجته أصرت على أن تزوج ابنته لابن أختها تبسم.
دخل ادريس إلى المنزل ونادى على الخالة فاطمة تلك المرأة التي ربتهم منذ الصغر، هو يحبها ويعدها أما ثانية له واحترامه لها كبير جدا. انتظر وانتظر لكن لم يجبه أحد، طرق باب غرفتهم وكان الجواب هو الصمت. نادى سعدية ابنة عمه لم تجبه هي أيضا، بدأ الرعب يدب في أوصاله خوفا من أن يكون أصابهم شيء. لم يترك غرفة إلا وبحث فيها لم يجد أحدا كان المنزل فارغا تماما، لم يعرف ماذا يفعل هل يسأل الجيران، أم ينتظر قليلا لعلهم خرجوا للتنزه وهم في طريقهم على العودة، وماذا لو أصاب أحدهم مكروه، كان عقله مشوشا. ولا يزال يشاور نفسه فيما سيفعله حتى سمع صوت المفتاح في الباب فقام مسرعا وفتح الباب ليجد أخويه منير ومحمد ومعهم الفتيات، لم يدري لم قبض قلبه فجأة، وخصوصا بعد النظر على ملامح وجههم ملأها البأس، الحزن، الاكفهرار، والأسى. وخصوصا البنات اللاتي كانت عيونهن حمراء ومنتفخة دالة على البكاء للمدة طويلة. خاف ادريس كثيرا وخاصة عند عدم رؤيته للعم والخالة ونزهة. -ماذا حصل؟ لقد دخلت إلى المنزل فلم أجد أحدا فيه، أين كنتم وما حالتكن هاته؟ -حصلت مصيبة لم تكن في الحسبان يا ادريس، أجابته سعدية. -ماذا حصل؟ هل من مكروه وقع؟ أجبوني بسرعة، هيا يا سعدية أجيب أنت. -لا أدري يا ادريس بما أبدأ، فما وقع لا يحكى. -ابدئي من الأول يا سعدية، فقد بدأ الرعب يدب إلى قلبي، فقط قولي شيئا. -لقد خرجنا اليوم جميعا قاصدين الربوة للتنزه والترفيه قليلا عن أنفسنا. لكن ونحن في منتصف الطريق، تذكرت الخالة فاطمة أنها نسيت المفاتيح في باب المنزل ولم تجلبها معها، فأمرت نزهة للعودة إلى المنزل لجلبها قبل أن يراها أحدهم ويدخل إلى المنزل ويسرقنا. أطاعت نزهة الخالة فاطمة وعادت أدراجها إلى المنزل، متفقين على أن انتظرها نحن في مكاننا ذاك إلى أن تعود. تأخر الوقت وقد مرت قرابة الساعة فأكثر، ولا خبر عنها، فاقترحت كوثر اللحاق بها علها التقت جارة من الحي وقد طال الحديث بينهما، لتعود بعد قرابة النصف ساعة وهي مصفرة الوجه ومرتعبة، وجسمها ينتفض انتفاضا وهي تشير إلى الخلف. ظننا أن أحد لحق بها، فنظرنا خلفها فلم نجد أحدا، بادرنا بسؤالها عما حصل لكنها كانت تبكي بشدة وهي تردد اسم نزهة والحاج إبراهيم. استلمت بعدها كوثر دفة الحديث وفي وجهها علامات الحزن والقهر متجلية بوضوح. -لقد كنت في طريق العودة لأرى سبب تأخر نزهة، عندما رأيت الحاج إبراهيم وهو يحاول كسر باب بيته بكل قوته، وهو يصرخ بأعلى صوته في ولده "سأقتلك إن لم تتركها، أتركها يا حيوان، عليك لعنة الله والعالمين، غضبي عليك إلى يوم الدين، لا بارك الله فيك من ولد" لم يصله رد من ابنه، فبدأ بمناداة الجيران للمساعدة وبأن ابنه سيرتكب جريمة شنعاء "اطلبوا الشرطة للمجرم، اطلبوا الاسعاف". جاء الجيران بسرعة وكسر الرجال الباب، وعندها رأيت الحاج إبراهيم يتقدمهم ويدخل ويخرج ابنه من الداخل وكان ابنه في غير وعيه ويقول كلاما غير مفهوم وملابسه مكشوفة، ليخرج فجأة سكينا من جيبه وغرزها في قلب والده. أسرع الجيران للإمساك بحاتم ونزع السكين من يده كي لا يؤدي أحدا وطلب للإسعاف للحاج. دخلت النساء للداخل لنجدت الفتاة، كانت النساء تتحسر على شباب الفتاة ومستقبلها الضائع، لم أفهم ماذا يحصل وما هممت إلى السؤال حتى جاءتني إحدى الجارات راكضة نحوي وتقول "أتقفين هنا وأختك في تلك الحالة، أين أمك؟ هيا بسرعة يجب نقل أختك إلى المشفى" وجرتني حتى رأيت أختي في حالة لا توصف. وانخرطت كوثر في شبه هيستيرية من البكاء هي وأخواتها فقامت سعدية إلى جانبهن محاولة مواساتهن، بينما انشراح جلبت بعض الماء. أومأت لمحمد من بعيد بتتبعي، ففهمني وقام مسرعا ولحقني إلى الشرفة الصغيرة التي توجد بالصالة، فبادرته بالكلام. -أكملي ما حصل فلم يعد لي طاقة للصبر. -ماذا أقول يا أخي؟ لقد كان حاتم ابن الحاج إبراهيم، قد تناول الكثير من المخدرات، الشيء الذي أفقده صوابه تماما، وعند مرور نزهة من أمام منزلهم، لمحها فسحبها على منزلهم ثم... ثم اعتدى عليها وبعدها قتل والده، فقد وصلنا خبر بأن الحاج إبراهيم قد توفي إثر إصابته البليغة، رحمه الله. - لا حول ولا قوة إلا بالله، وأين العم أمين والخالة فاطمة الآن؟ -لقد أدخلوا نزهة إلى المشفى فقد كانت حالتها هي الأخرى خطيرة فقد نزفت كثيرا، وعند اطمئنانا على أن حالتها أصبحت مستقرة، رجعنا إلى المنزل وظل كل من العم أمين والخالة فاطمة هناك معها. لم يكن يعرف ماذا يفعل او ماذا يقول فالمفاجأة ألجمته تماما، لم يكن الوضع يستحمل الكلام أكثر فقرر إنهاء الليلة. ذهب الكل إلى النوم باكرا أو محاولين النوم لعلهم بالنوم يتناسون ما حدث. < أصبحنا وأصبح الملك لله > جاء الصباح، واستيقظ سكان المنزل الصغير على صراخ حورية وهي تبكي، فأشار ادريس لسعدية لتهدئتها. كان الكل مرهقا ويتجنب كل واحد منهم النظر في عيني الآخر وكأنهم بذلك يأجلون مواجهة الموضوع قدر المستطاع. ذهبت سعدية بعد ذلك لتجهيز الفطور للجميع، وبعدها تجهز ادريس للذهاب إلى العمل، مر أولا على موقع البناء ليعتذر، وبعدها ذهب إلى عمله الجديد، وهناك أخبر الحاج حامد عما حصل معه بعد افتراقهما. حزن الحاج حامد كثيرا على الشابة الصغيرة وما حصل لها، وترحم على روح الحاج إبراهيم الذي كان صديقا مقربا له. وأعطى لإدريس اليوم كي يذهب للمشفى والوقوف بجانب العم أمين، بعد أن سلمه راتبه الشهري الذي رفض إدريس تسلمه لكن الحاج تمكن من إقناعه وخصوصا بالظروف التي هم بها الآن. مر على السوق واقتنى بعض مستلزمات المنزل، ثم قصد منزل العم أمين من جديد. عند رأيته خافت سعدية أن يكون قد طرد من عمله، لكنه طمأنها وأخبرها عن عمله الجديد وأعطاها جزء من راتبه لتشتري به ما يلزمها هي وسليمة وانشراح كونها أكبرهن، ثم أعطاها ما اشترى من الخضروات والسمك وطلب منها تجهيز الأكل، ليأخذوا بعضه للعم أمين وزوجته في المشفى فمنذ مساء أمس وهم هناك دون أكل ولا راحة. نفذت سعدية كلام ادريس، وضعت الأكل للباقين، ثم لبست خمارها، لتذهب مع ابن عمها للمشفى، رغم رجاء بنات العم أمين للذهاب معهم، لكنه رفض وقال إنه سيحاول إقناع العم أمين والخالة فاطمة بالعودة إلى المنزل للراحة قليلا وهو وسعدية سيبتون اليوم عند نزهة. وصلوا إلى المشفى التي أودعت فيه، وبعدها إلى الغرفة التي كانت فيها نزهة، طرقوا الباب ففتحته لهم الخالة فاطمة التي ما أن رأت ادريس حتى أجهشت بالبكاء وكأنها طفلة صغيرة تشكي لوالدها عن ظلم لحق بها. جر الخالة فاطمة وهي على تلك الحالة إلى إحدى الكراسي القريبة، والتي طلت على بكائها قرابة النصف ساعة إلى أن هدأت أخيرا. -ان السبب فيما حصل، أنا من كان يجب عليها العودة يا ادريس لا هي، فلو لم أنسى أمر المفاتيح ما كان حصل ما حصل، أنا من أضعت ابنتي بنفسي، آه يا ادريس لن يعلم أحد مدى ألمي الآن وحزني، يكاد قلبي ينشكر نصفين. -لا تقولي هذا يا خالة فلا ذنب لك فيما حصل فالذنب ذنبه هو، ذلك المدمن الذي لا يخاف حدود الله، لم يكفه ما فعل بنزهة فقد قتل والده أيضا. -ماذا؟ أمات الحاج إبراهيم؟ -نعم يا خالة لقد توفي الأمس لم يتمكنوا من إنقاذه، رحمه الله. -إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد كان رجلا طيبا، لا أعرف كيف لرجل مثله أن يلد ولدا عاقا مثل ذلك الخسيس. -تلك أقدار لا يعرفها إلا الله، لعله بذلك يغفر له الله خطاياه ويدخله فسيح جناته. حسنا يا خالة فاطمة... لم يتمكن من إكمال كلامه حتى سمع صوت نزهة وهي تصرخ بأعلى صوتها طالبة النجدة، دلف إلى الغرفة ليرى نزهة وهي في حالة هيستيرية، والعم أمين لم يقوى حتى النهوض من مكانه فقط سعدية من كانت تحاول تهدئتها وتنظم إليها الخالة فاطمة، ذهب ادريس بسرعة يطلب من الممرضة مناداة الطبيب لأن المرضة في تلك الغرفة في حالة هيستيريا. كان راجعا إلى الغرفة حين سمع صراخ الخالة فاطمة وهي تستجدي ابنتها للنزول عن سور الشرفة، ليمد بصره فيرى نزهة تقف على السور وتريد رمي نفسها، ليمسك بها في آخر لحظة ويمنعها من الوقوع من الشرفة ويحملها ويضعها في سريرها. دلف الطبيب الغرفة وأعطى نزهة حقنة مهدئة ثم أمر الممرضات بإقفال باب الشرفة ونزع المفتاح منه.
مريم_العبد الله Admin
المساهمات : 85 نقاط : 215 تاريخ التسجيل : 04/09/2020 العمر : 27 الموقع : مشرفة
موضوع: رد: رواية في السراء والضراء للكاتبة مريم العبد الله الجمعة مارس 24, 2023 2:29 am
الفصل الثاني:
مر شهريين على ما حدث خرجت فيهما نزهة من المشفى وعادت إلى المنزل، وكانت دائما في حالة من الهدوء، تتحاشى الكل ولا تخرج من غرفتها أبدا، ودائما ما تستيقظ وهي تصرخ طالبة النجدة، لكن في آخر أسبوع بدأت نزهة بالاستكانة قليلا والنوم دون مهدئ كما بدأت في الصلاة من جديد، والوقوف قليلا بباب غرفتها.
وفي صباح يوم جمعة، سمع العم أمين طرق خفيفا على باب غرفته.
-لا شهية لي في الأكل يا فاطمة.
-هذه أنا يا أبي، نزهة.
ما أن جاءه صوت أحب بناته على قلبه وأكبرهن حتى فز من مكانه مخافة أن يكون حلما فاتحا الباب ثم أمعن النظر فيها مطولا حتى تأكد أنه لا يحلم بل تلك حقيقة، إنها هي لقد خرجت من غرفتها أخيران أدخلها الغرفة بسرعة مخافة أن تتراجع.
كان جميع أفراد المنزل يقفون أمام باب الغرفة، والحزن يخيم على ملامحهم، وخصوصا لرؤيتها على تلك الحالة، لقد نحفت كثيرا عن ذي قبل، وملامحها لا تعبر سوى عن الحزن والأسى والألم والظلم، ولكن مع ذلك يوجد القليل من الأمل. كانت شاردة الذهن قليلا لا تدري بما تبدأ حديثها، لقد انتهكت كرامتها وعرضها وشرفها بأسوأ طريقة، لقد كان نظرها مشتتا في جميع أنحاء الغرفة وكأنها بذلك تتحاشى النظر في عيني والدها، بدأت الحديث وكأنها تحاول التخلص من الحمل الذي يثقلها ويخنقها.
-كنت راجعت إلى المنزل كي آخذ المفاتيح كما طلبت والدتي، حينها لمحته وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وما أن رآني حنى بدأ بسحبي من يدي وأغلق فمي بيده كي لا أصرخ، حاولت جاهدة كي أتملص من قبضته لكنه كان أدخلني إلى منزله بالقوة، حاولت ضربه وتخليص نفسي حاولت ترجيه، لكنه لم يستمع... لقد، لقد حاولت يا أبي ولم أتمكن من منعه وصده، أرجوك سامحني يا أبي.
كان كلام نزهة لأبيها كالخناجر بالنسبة له فهو لم يعتدها هكذا لقد كانت دائمة البسمة مرحة الطبع، ولكن التي أمامه لا يكاد يعرفها، أين ابنته أين أخذوها منه، ليستيقظ على بكاءها بحرقة.
-لا شيء يتوجب أن تطلبي عليه السماح يا صغيرتي فأنت لم تفعلي شيئا، انت المظلومة هنا، أنت...أنت.
-صباح الخير جميعا، وأنا التي كنت أظن نفسي قد استيقظت باكرا، هيا لنعد الفطور من يأتي معي ليساعدني.
كان ذلك صوت سعدية التي أثارت إنهاء الكلام عندما رأت الإرهاق البادي على الكل، فساندتها كل من كوثر وكريمة.
اجتمع الكل على مائدة الفطور، وبعد انتهائهم نهض العم أمين للذهاب إلى غرفته لكن أوقفه صوت ادريس.
-اليوم الجمعة يا عم أمين، يعني إجازة، فلما لا نذهب إلى الربوة جميعا بعد صلاة العصر، فما قولك؟
-لما لا، فكرة رائعة لنغير الجو، أجابت كوثر بسرعة، أرجوك يا أبي وافق.
-حسنا إنها فكرة جميلة، استعدي يا فاطمة وجهزي كل شيء حتى ننطلق بعد صلاة العصر.
-سيكون كل شيء جاهزا بإذن الله.
ونهض الجميع من فوق طاولة الفطور، ذهبت النسوة إلى المطبخ لإعداد وجبة الغذاء بعد أن قرروا ما سيأخذونه معهم في المساء، بينما خرج الرجال للذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة.
رجع كل من العم أمين وادريس وأخويه منير ومحمد إلى المنزل ووجدوا أن النساء قد جهزن طاولة الطعام قبل الذهاب إلى الصلاة أيضا في غرفتهن، ولم يبقى سوى الطبق الرئيسي الذي ما أن أنهت سعدية صلاتها حتى وضعته فوق الطاولة، وبدأوا في تناول طعامهم وهم يناقشون ما سيفعلونه في الربوة بعد وصولهم وفور إنهائهم لطعامه، قامت النساء بالتجهيز اللازمة، فأعدت الخالة فاطمة كعك كبيرا يكفيهم جميعا، بينما تعاونت سعدية ونزهة على إعداد بعض الفطائر، وكانت كوثر تغلي الشاي، وكريمة تجهز الفرش الذي سيقعدون عليه، بينما باقي البنات كن يغسلن أواني الغذاء.
بعد صلاة العصر انطلق الجميع في طريقه، كان الجو رائعا، والربوة كعادتها في فصل الربيع، مليئة بالخضرة تلائم زروقة ماء البحيرة، التي تكون ممتلئة بالقوارب على مدار السنة. الربوة عبارة عن هضبة فائقة الخضرة وخصوصا في فصل الربيع، حيث تتفتح الأزهار، بين نرجس وياسمين، وورد وشقائق نعمان.
أخذنا مكاننا تحت شجرة تين كبيرة ذات فروعة ممتدة وأعراش متدلية، حيث فرشة البنات بعض المفارش التي أحضروها معهم، لعبت كل من سليمة وانشراح وصنع لهم ادريس الكثير من تيجان الورود، وعلق الأرجوحة في أحد الفروع المتينة.
جلس العم أمين وهو متئك على جذع الشجرة، بينما كان منير ومحمد يتجاذبان أطراف الحديث غير بعيد عنه، جلس ادريس من الجهة الأخرى وهو يتأمل المناظر البديعة التي أمامه التي تظهر عظمة الخالق، وكيف أن الخضرة مع الزرقة اندمجا مع بعضهما البعض.
قامت الفتيات ومعهم نزهة التي بدأت تسترجع القليل من حيويتها للتجول قليلا على أطراف البحيرة، حيث يوجد أغلب الباعة هناك، منهم باعة متجولون وأصحاب أكشاك دائمة، بين بائع كعك أو غزل بنات، وذاك يبيع بعض المكسرات وآخر يبيع الفطائر، نهيك عن أصحاب أكشاك السمك الذين يقدمون وجبات السمك الذي يتم اصطياده من البحيرة. وصلوا إلى أحد بائعي الفواكه الجافة فاشتروا القليل من الفول السوداني.
أمضوا المساء بطريقة جميلة، متناسين همومهم، أحزانهم وما يتعبهم ويؤرقهم، ضحكوا ولعب الأطفال ومرت الأمسية بسلام، وشارفت الشمس إلى الغروب فتدرجت السماء بين لونها الأزرق وحمرة الشمس الشيء الذي زاد الربوة جمالا، لوحة من إبداع رب العالمين.
كانوا في طريقهم إلى المنزل، عندما التقوا بإحدى الجارات، وطال الكلام حتى وصبت بكلامها إلى ما وقع لنزهة، متقصدة إحراجهم.
-آه يا صغيرة، أشفق على حالك كثيرا، من ذا الذي سيأتي لخطبتك أو يتجرأ حتى إلى النظر في وجهك بعد ما حدث. فجارتنا فطوم لم تترك أحدا إلا وقالت له أنك ذهبت مع حاتم ابن الحاج إبراهيم عن رضى وأنك افتعلت المشكلة لأنه رفض الزواج منك، أهذا صحيح؟
لم تتحمل نزهة كلاما آخر من تلك المرأة، وصعدت بسرعة إلى منزلهم وفتحت الباب بسرعة وأخذت تكسر كل شيء وقع عليه بصرها، حاولوا كثيرا تهدئتها وفي الأخير فقدت الوعي.
أخذها كل من العم أمين وادريس على المستشفى، وبعد نصف ساعة خرجت إليهم الطبيبة.
-لقد أصابها انهيار عصبي حاد، لقد أعطيتها بعض المهدئات ولن تستيقظ حتى الصباح، أرجو منكم أن تجلبوا لها مرافقة الليلة لكي تعتني بها.
-شكرا جزيلا لك ايتها الطبيبة.
-لا شكر على واجب هذا عملي.
ذهبت بعدها الطبيبة، وجلس كل من العم أمين وادريس القرفصاء.
-لا تقلق يا عم أمين سأذهب حالا لجلب الخالة فاطمة، انتظرني هنا، وبعدها نذهب سويا إلى المنزل ونأتي غذا صباحا، حسنا؟
-حسنا يا ولدي افعل ما شئت، فلا قدرة لي على التفكير أو الحراك.
ذهب ادريس وراء الخالة فاطمة، ثم رجع هو والعم أمين إلى المنزل، لم ينم ادريس الليل بطوله وفي باله فكرة واحدة ينتظر الصباح فقط لينفذها.
<أصبحنا وأصبح الملك لله> استيقظ ادريس باكرا في الصباح رغم أنه لم ينم إلا بعد صلاة الفجر، وذهب مباشرة إلى غرفة العم أمين للتحدث معه عن الفكرة التي بنظره هي الحل لمشاكلهم جميعها. وجد العم أمين هو الآخر مستيقظا، ويمسك بسبحته. -صباح الخير يا عم أمين، كيف أصبحت اليوم؟ -الحمد لله يا ولدي على كل حال. -الحمد لله. -أهناك أمر ما، لقد استيقظت مبكرا لا زال وقت الذهاب إلى العمل. -يا عم أمين، كنت أريد أن أفاتحك في موضوع مهم جدا. -خيرا يا ولدي. -خير بإذن الله، في الحقيقة أنا ذهبت في يوم عملي الأول إلى رجل يدعى الحاج حامد، يقوم بكراء المنازل، أرشدني إليه العم عثمان أحد الرجال الذين عملت معهم. وقد رأيت شقة صغيرة مناسبة لنا أنا وإخوتي وبنات عمي واكتريتها، ولكن بعد ما حصل أجلت الذهاب إليها حتى يصير الوضع مستقرا، وحتى أن الحاج حامد شغلني عنده محاسبا بضعف أجرتي في البناء، وقد آن الأوان لكي نذهب لنسكن فيها، فالبنات مجبرات على وضع حجابهن في المنزل. كان الحزن واضحا على ملامح العم أمين، فوجود ادريس إلى جانبه يهون عليه فلطالما اعتبره ابنا له. -ولماذا يا ولدي ستكلف على نفسك مصاريف أنت في غنى عنها. -حتى البارحة يا عم أمين كنت أفكر في التراجع عن الذهاب لكني اليوم مصرا جدا. -يا ولدي... -انتظر يا عمي، قال ادريس مقاطعا العم أمين، ليس هذا السبب فقط في استيقاظي باكرا هذا الصباح بل يوجد سبب أهم من الانتقال إلى المنزل الجديد. -وما هو يا ولدي؟ -يا عم أمين أنا أطلب يد ابنتك نزهة إلى الزواج على سنة الله ورسوله، فهل تقبل بي؟ كان العم أمين في حالة صدمة لم يقدر أن يعبر في شيء، لقد كان فقط يطمع أن يبقى إلى جانبه حتى يمروا من محنتهم لكنه الآن يريد حلها لهم. -ما بك يا عمي؟ هل قلت شيئا أزعجك؟ -لا يا ولدي ولكنك ما زلت شابا في مقتبل العمر، وابنتي... وابنتي أنت تعرف ما حصل لها، لا يمكنني أن أرغمك على التضحية بهذه الطريقة، أنا أعرف فيما تفكر، أنت تفكر بأنني ساعدتكم عندما كنتم بحاجة ماسة وتخلى الجميع عنكم، لكنني يا بني لم أفعل ذلك إلا لكي أفي بديوني إلى والدك، ذلك الرجل الشهم الطيب الأخلاق، الذي لطالما ساعدني في محني وفوق ذاك فهذا المنزل الذي نحن فيه والدك من أعطاني إياه دون مقابل. يا ولدي لا يمكنني أن أسمح لك أن تفعل أكثر من هذا، فسأكون طماعا وناكرا للمعروف.
-يا عمي، أنا أطلب منك ابنتك نزهة التي أنت ربيتها على الدين والقيم والأخلاق الحسنة، أما ما حصل معها فلا ذنب لها فيه.
-دعني يا بني أستشر نزهة وخالتك فاطمة في الأمر. -حسنا يا عمي كما تريد. نهض الاثنان على صوت سعدية وكوثر وهم ينادون البقية للقيام من النوم فالفطور جاهز. بعد الفطور ذهب ادريس على عمله بينما توجه العم أمين إلى زوجته في المشفى وأخبرها بما دار بينه وبين ادريس، ولم يعرفوا أن نزهة كانت تستمع إلى كل شيء. في الحقيقة لطالما كانت معجبة بشهامة ادريس وطيب أخلاقه، ولكن كانت تقول إنه غني وهي فقيرة وأنهما لا يتناسبان، وهي إنسانة قنوعة بما كتب الله لها ولا تطمع فيما لغيرها. وبعد ما حصل لها لم تعد تجد نفسها لائقة به وظنت أنه ضاع منها للأبد وخصوصا أنها تأملت قليلا بعد ما جاء للسكن معهم رغم حزنها الشديد لخسارته، فهي تتمنى ألا يكون له أبدا على أن يخسر والديه وثروته ويظل في الشارع، ولكنه الآن خطبها، وفي تلك اللحظة لم يكن يخيفها إلا أن يكون زواجه مجرد شفقة ليستر الفضيحة ثم يمر القليل من الوقت فيطلقها. مر الوقت سريعا، وبداخل نزهة دوامة لا تنتهي فجزء منها يريد حقا أن يوافق وجزء آخر لا يريد أن يظلم ادريس معها وحتى لو كان يتزوجها بدافع الشفقة والإحسان، فهو سيستر عليها وينقذها من أقاويل الجيران وفي الأخير فوضت أمرها لله وقررت أن تصلي صلاة استخارة ليهديها الله إلى ما فيه صلاحها، دلف العم أمين إلى غرفتها ليفاتحها في الموضوع فاختصرت عليه الكلام.
-لقد سمعت كل شيء يا ابي وأمهلني إلى صباح الغد لعله يكون لدي جواب لسؤاله.
هم العم أمين بالخروج فاستوقفته نزهة قائلة.
-يا أبي هل يمكنك أن تخرجني اليوم من هنا فأنا أريد الرجوع إلى المنزل.
أذنت الطبيبة لنزهة بالخروج، وعادوا إلى المنزل. وصل ادريس إلى عمله مع الحاج حامد، وذهب إليه ليكلمه بعد أن فرغ من الحديث مع أحد السكان الذي يشتكي من جار له.
-يا حاج أريد أن أشارك في شيء ما.
-تفضل يا ولدي.
-أنت تعرف بما جرى لابنة العم أمين فقد سبق وأخبرتك، وفي الحقيقة وقعت حادثة الأمس جعلتني أقرر قرارا.
-وما هو يا بني؟
-في صباح اليوم لقد طلبت يد ابنة العم أمين للزواج على سنة الله ورسوله، على أن يتشاوروا ويردوا الجواب حينها نعقد الخطوبة رسميا، فما رأيك فيما فعلت؟
-رحم الله من رباك، فقد أحسن تربيتك وزرع فيك القيم والأخلاق والشهامة، حفظك الله من كل مكروه يا بني.
-أ معناه أنك توافقني الرأي فيما فعلت؟
-بالطبع.
-إذا وافقوا على طلبي أتوافق أن تذهب معي لخطبتها من والده بصفتك أبا لي؟
تأثر الحاج حامد كثيرا بكلامه، فالحاج لا أبناء له فزوجته لن تنجب أبناء قط، وليس هناك غيرها هي والحاج في منزلهم لذلك بنوا هذا البناء وسكنوا في إحدى شققه وأجروا الباقي كي لا يشعروا بالوحدة.
-بالطبع يا بني، لا يمكنني أبدا ان أصف مدى سعادتي.
-حسنا أخبر الحاجة ثريا بذلك، فهي ستكون أما لي إن وافقت.
أتم ادريس عمله المعتاد، وفي المساء عاد إل المنزل فأخبره العم أمين بما قالته نزهة، فأجابه بأنه حقها.
وفي صباح اليوم الموالي ظهر على ملامح نزهة بعض السرور وكانت نشيطة كعادتها القديمة، وكان الكل مسرورا بتغيرها، وبعدها نادت والدها واخبرته بموافقتها، الذي أخبر بدوره موافقتها لإدريس، وقرارا عمل الخطوبة وعقد القران في يوم الخميس القادم، على أن يجهزوا لعرس مقتصر على المقربين، ثم ذهب ادريس لعمله حيث أخبر الحاج حامد بالموافقة والذي فرح كثيرا.
-لقد كنت أفكر يا حاج أن أغير الشقة التي اكتريتها منك بشقة أكبر، فأنا ونزهة ستجمعنا غرفة واحدة والفتيات في غرفة، وإخوتي الذكور يمكنهم النوم في الصالة.
-معك حق يا بني، هيا قم معي لأوريك الشقق الكبيرة.
-ليس اليوم يا حاج حتى أجلب العائلة حتى يختاروا معي الشقة التي ستناسبنا.
-معك حق في هذا أيضا، والآن قل لي ما ستحتاجه في الخطوبة حتى تحضر الحاجة لك.
-لا حاجة لذلك يا حاج...
-ألم تقل بأني في مقام والدك رحمه الله، وأن زوجتي في مقام والدتك رحمها الله.
-طبعا يا حاج.
-أما كان والديك جهزا لخطوبتك.
-بلى لكن...
-لا توجد لكن، سأقوم الآن لأتكلم مع الحاجة وهي ستكلف بكل شيء إن شاء الله.
في اليوم الموالي، حضر الجميع لرؤية الشقة، نالت إحدى الشقق استحسان نزهة فقد كانت تحتوي على ثلاث غرف وصالة كبيرة، ومطبخ واسع به نافذة تطل على الساحة الكبيرة للمنزل، لكنها آثرت الصمت مخافة أن تكون غالية الثمن فتكلف ادريس فوق طاقته، ففضلت أن يكتروا إحدى الشقق الصغيرة التي بها غرفتين فقط.
كانت شقة صغيرة لكن لها واجهتين إحداهما الحديقة الكبيرة التي وراء المنزل، وهي حديقة عمومية جميلة جدا بها الكثير من أنواع الأزهار والورود المزروعة والتي يطل عليها المطبخ وغرفة النوم الكبرى، والواجهة الثانية هي فناء المنزل، وأشجار الليمون التي تزهر فتملئ رائحتها العطرة الجو، وكانت الصالة والغرفة الثانية هي التي تطل عليه. أرادت نزهة أن تأخذ هي وادريس الغرفة الصغيرة على أن يتركوا الغرفة الكبيرة للفتيات لكن سعدية رفضت رفضا قاطعا، مما جعل نزهة تستسلم في الأخير.
تقرر أخذ الشقة، وفي المساء أحضر ادريس بعض الأغراض، فلم يعد مناسبا له السكن في منزل العم أمين رغم محاولات هذا الأخير تغيير قراره لكن أصر على ذلك. وفي اليوم المحدد، تم عقد القران بحضور العم أمين وزوجته وبناته الثلاثة وأخوي ادريس منير ومحمد وأخته الصغرى سليمة وبنات عمه سعدية وانشراح وكذا كل من العم عثمان وزوجته الخالة أمينة والحاج حامد وزوجته الحاجة ثريا التي لم تبخل على العروس بشيء، فقد فرحت كثيرا عندما أخبرها الحاج حامد أن ادريس وضعهم في محل والديه المتوفيين.